إن اجتماعكم هذا يؤكد، مرة أخرى، التحديات الإستراتيجية للماء في منطقة البحر الأبيض المتوسط، ويذكر بضرورة وأهمية الحكامة الجيدة للموارد المائية على مختلف المستويات، باعتبارها مسألة محورية لضمان العيش الكريم والسلم والاستقرار، لاسيما في جنوب وشرق المنطقة.
هذا، وبالرغم من صبغتها العالمية، فإن الإشكاليات المتعلقة بالماء والاكراهات التي ترافقها مثل تغير المناخ، تشكل تحديا كبيرا بالنسبة لبلدان البحر الأبيض المتوسط، لكونها منطقة تأرجح جيو مناخي، يجعلها معرضة لمختلف التأثيرات، وخاصة منها ندرة المياه.
لذا، فإننا مطالبون بإيجاد الحلول والمقاربات الخلاقة لابتكار وسائل جديدة تضمن ما يكفي من الموارد المائية التي تطلبها حاجيات التنمية، علما أنه لا سبيل لتحقيق تنمية بشرية حقيقية دون سن صيغ للتدبير المستدام لهذه الموارد.
إذن، أصبح من الواضح أن نعي، أن زمن وفرة الماء قد ولى، وأصبح من الضروري ضمان تدبير سليم لهذه الموارد والتحكيم المستمر بين مختلف الاحتياجات، الناتجة عن التوسع العمراني، والنمو الديموغرافي، أخذا بعين الاعتبار التغيرات المناخية، والتلوث، فضلا عن الضغط الذي يتعرض له الساحل، وخاصة ما يترتب عن نمو النشاط السياحي.
وفي هذا الإطار، يتعين مستقبلا على بلدان البحر الأبيض المتوسط تعزيز التعاون والشراكة بينها، والاستفادة من تجاربها وخبراتها، على نحو يمكن اعتماد أفضل النماذج، مع تحديد أنجع السبل والوسائل التي تمكن من استخدام موارد المناطق الرطبة بطريقة مستدامة، وخاصة الموارد المائية.
حضرات السيدات والسادة،
أود أن أذكر، إن كان ذلك يحتاج إلى تذكير، أن المناطق الرطبة تعتبر أنظمة إيكولوجية هشة، سريعة التأثر بطرق استعمال غير ملائم لمواردها الطبيعية إن كانت لا تتوافق ووتيرة تجددها لضمان الاستمرارية والاستدامة.
إن التقارير الحديثة النشر من مراكز الخبرة والتخصص العلمي، تبين بوضوح المنحى السلبي لتدهور هذه النظم البيئية بجميع أنحاء العالم، موضحة تقلص الكمية المتوفرة من الموارد المائية وحدوث تغيرات في توزيعها، مع ازدياد خطر الفيضانات والجفاف، وارتفاع في درجات الحرارة، وتراجع المجاري المائية، وذلك ضمن علاقة سببية تهدد توازنات النظم الايكولوجية المائية، وتؤدي في نهاية المطاف إلى تدهور تام لهذه النظم، وإلى فقدان وظائفها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
إن التحدي الكبير الذي يجب تجاوزه للمحافظة والتدبير المستدام للمناطق الرطبة هو ضمان الانسجام بين الخيارات الإستراتيجية للمحافظة على موارد هذه المناطق وتنميتها، وكذا الاحتياجات الناتجة عن الضغط اليومي للمصالح الآنية، مما يستدعي عملية تحكيم واعية، تتوخى اعتبار البعد الزمني البيئي في الفصل بين الخدمات المقدمة حاضرا والقدرة على ضمانها مستقبلا. و بالتالي، فإن مثل هذه الإستراتيجية، تتطلب تعبئة مكثفة، و مدعمة بشكل مستمر من طرف جميع المتدخلين في إطار منهجية تشاركية و شمولية للنظم البيئية كوحدات متكاملة، باستخدام أدوات الرصد البيئي، المبنية على مؤشرات تقييم موثوق بدقتها و مصداقيتها.
و من هذه المنهجية، تنبثق قدرتنا العملية، على اعتماد برامج استباقية، كوسيلة كفيلة بتحديد خطط التنمية و التدبير، و في تتبع مستمر لبرامج التنمية قصد رد فعل يضمن تعديل و تصحيح طرقنا العملية و نماذجنا التنموية بالسرعة و النجاعة الكافيتين.
و بذلك سنكون قد ساهمنا في التطبيق العملي لمبدأ الاحتياط، بسن طرق و مداخل قراءة ذات منهج علمي لأبعاد الشأن الإيكولوجي، و التمكين من أخذ القرار في حالات عدم توفر عناصر اليقين.
حضرات السيدات و السادة،
رغم السياق الدولي، الذي يعاني من أزمات اقتصادية و مالية خانقة، ذات آثار يطبعها التردد و النقص في الوضوح و التوجهات على السياسات البيئية بمختلف دول العالم، فإن المغرب يبذل جهودا متواصلة من أجل التوفيق بين متطلبات التنمية الاقتصادية و البشرية و الاهتمام الدائم بالمحافظة على تنوعه البيولوجي و حمايته، مراعاة للتوازنات الإيكولوجية لهذه المناطق، و ذلك في إطار تصوراته الخاصة و توصيات الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية البيئة. ولقد انخرط بلدنا في هذا النهج، بانضمامه للاتفاقيات الدولية المنبثقة عن قمة الأرض لريو عام 1992، حيث وضع الأطر المؤسساتية و القانونية المناسبة و قام بإعداد سياسات و برامج للتأهيل البيئي.
إن القضايا البيئية التي تعتبر من بين انشغالاتنا الأساسية، قد تم دمجها في برامجنا التنموية، كما أن الموارد المائية التي يتمحور حولها اليوم لقاؤنا بأكادير، تخضع لسياسة رائدة و استباقية، تتجلى في سياسة تعبئة رشيدة لهذه الموارد، حيث بلغت القدرة الاستيعابية لحقينات ما يزيد عن130 سدا 18 مليار متر مكعب.
إن سياسة التحكم في العرض قد صاحبها ترشيد في الطلب من خلال اعتماد وسائل و أساليب للاقتصاد في استعمالات الماء، وتوجيه أنجع للأنشطة الزراعية ، مع حماية جودة الموارد، وإعادة استعمال المياه العادمة.
و فيما يتعلق بالمناطق الرطبة، فان بلدنا يتميز بغنى نظمه البيئية، حيث تم تصنيف 84 منها كمواقع ذات أهمية بيولوجية و ايكولوجية في إطار المخطط المديري للمناطق المحمية ، كما تم تسجيل 24 منها في لائحة رامسار للمناطق الرطبة ذات الأهمية الدولية. و تحتضن هذه المناطق ، التي تغطي أكثر من 200000 هكتار، أكثر من 700 نوع من النباتات القنوية و أكثر من 1400 نوع من الحيوانات الفقرية.
و بمصادقتها على اتفاقية رامسار منذ عام 1980، التزمت بلادنا للعمل على المحافظة على المناطق الرطبة، وإعادة تأهيلها، و تدبيرها المستدام.
و في هذا الإطار، قامت بلادنا بإعطاء الانطلاقة لعدة مبادرات من شأنها تعزيز الجهود المبذولة للمحافظة على التنوع البيولوجي بالمناطق الرطبة، و إنعاش التنمية المحلية التشاركية المستدامة.
و هكذا، تم : 1) إصدار سنة 2010 قانون خاص بالمناطق المحمية، يعزز التزام و مجهودات بلدنا للمحافظة على التنوع البيولوجي، انسجاما مع توجيهات الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بهذا الميدان، 2) إتمام الجرد الوطني للمناطق الرطبة بالمغرب، 3) إعداد إستراتيجية وطنية للمحافظة على المناطق الرطبة بالمغرب.
يشكل الميثاق الوطني للبيئة و التنمية المستدامة، إضافة إلى القانون المتعلق بالماء و القانون المتعلق بالمناطق المحمية، إطار تشريعيا يمكن من تدبير فعلي و محكم لأهم المناطق الرطبة بالمغرب، انسجاما مع توجيهات و توصيات اتفاقية رامسار. كما أعطى هذا الإطار القانوني كل البعد البيئي المتوخى للورش الكبير للتنمية البشرية، الذي أعطى انطلاقته صاحب الجلالة سنة 2005.
حضرات السيدات و السادة،
إنني لعلى يقين أن هذه الندوة ستساهم في تعميق النقاش حول إشكالية الماء و المناطق الرطبة و ستمكن من إيجاد العناصر و الآليات، و خاصة منها تلك المتعلقة بتفعيل التعاون الجهوي والدولي، لإعداد و تنفيذ برامج عملية كفيلة بضمان ديمومة هذه النظم الإيكولوجية الجد هشة.
و إذ أجدد لكم الترحيب جميعا و الشكر إلى كل الساهرين على تنظيم هذه الندوة القيمة، فإني على يقين أنها ستسفر عن نتائج و توصيات من شأنها أن تساعدنا على توفير وسائل و مناهج التدبير المحكم لحماية أفضل، لمواردنا الطبيعية و نظمنا البيئية.
وفقكم الله في مسعاكم و السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته